تبون: كنا على استعداد للتدخل بصفة أو بأخرى لمنع سقوط طرابلس
بات واضحاً أن الملف الليبي خرج من عهدة الأمم المتحدة ومن يد بعثتها الأممية، وأصبح محل تجاذب بين باريس وروما ومن ورائها واشنطن، وهذا التحول اللافت في الموقف الدولي له أسبابه الداخلية والخارجية التي لا يمكن إغفالها.
فإن تعنت الأطراف المعرقلة في الأزمة الليبية والرافضة للاتفاق السياسي المتمثلة في مجلس النواب وقيادة عملية الكرامة وعدم تجاوبها مع أي حل قد يؤدي إلى دفع العملية السياسية وتحريكها إلى الأمام جعل التعويل على البعثة الأممية وجهود المجتمع الدولي من خلالها مضيعةً للوقت، خاصة بعد أن فشل المبعوثون الأمميون منذ توقيع الاتفاق السياسي في الصخيرات في تحقيق أي تقدم يذكر، وكان آخرهم السيد غسّان سلامة والذي لاقت خطته المقترحة في سبتمبر 2017 دعماً دولياً كبيراً إلا أنها لم تحدث أي شيء ملموس على الأرض.
لذلك فقد بدأت باريس مبكراً المناورة المنفردة في الملف الليبي –بداية من الدفع بسلامة مبعوثاً أممياً في ليبيا- فجمعت بين السراج وحفتر في الإليزيه إلا أنّ هذا اللقاء لم يثمر شيئاً، واستمرت بعده الجهود الفرنسية في الاستئثار بالملف الليبي، متخذة من دعم رجلها حفتر منطلقاً لاستراتيجيتها، وانتهت هذه الجهود بعقد لقاء باريس في مايو الماضي والذي نتج عنه ما عرف بإعلان باريس، إلا أنّ حفتر خيّب الظن الفرنسي بعدم تجاوبه بإيجابية مع مخرجات إعلان باريس خاصة فيما يتعلق بتوحيد السلطة التنفيذية تحت شرعية المجلس الرئاسي منسجماً في هذا مع موقف مصر الداعم الأقرب له، وهذ الأمر وضع باريس في حرج وجعل إعلانها في مهبّ الريح.
**************************
مثّل لقاء باريس شرارة الخلاف العلني بين روما وباريس حول الملف الليبي، خاصة بعد وصول اليمين الإيطالي للسلطة، والذي يضع ملف الهجرة في مقدمة أولوياته، خاصة وأن إيطاليا أكبر المتضررين أوروبياً منه، كما أن أزمة ليبيا فاقمت من أعداد المهاجرين، إضافة إلى تضرر إيطاليا في القطاع النفطي بسبب الإغلاقات المتكررة وتوقف كثير من استثماراتها بسبب تردي الوضع الأمني.
كذلك فإن الإدارة الأمريكية برئاسة ترامب وما تتخذه من مواقف أحادية دون التنسيق مع حلفائها وشركائها الدوليين، جعل التعويل على الأمم المتحدة في حل الأزمة الليبية أمراً مستبعداً، خاصة وأنّ هوّة الخلاف بين العواصم الأوروبية خاصة باريس وبرلين وبين واشنطن بدأت تتسع بداية من فرض الأخيرة تعريفات جمركية على الواردات الأوروبية إلى الولايات المتحدة، وانتهاءً بانسحابها من الاتفاق النووي الإيراني وفرضها عقوبات اقتصادية على طهران قد تضر بالمصالح الأوروبية في إيران خاصة في قطاع النفط.
*******************************
إذاً فليبيا أصبحت تمثل مسرحا لصراع النفوذ بين باريس وروما، حيث تسعى فرنسا لإنهاء الصراع الليبي من خلال تمكين رجلها حفتر في أسرع وقت ممكن، وترى أن تأخر إجراءات الانتخابات يقلص من حظوظه في اعتلاء السلطة في ليبيا، وفرنسا بتحالفها مع حفتر تريد تأمين مصالحها خاصة في الجنوب الليبي المتاخم لبعدها الاستراتيجي في حزام القارة الإفريقية وتوفير منفذ له على البحر الأبيض المتوسط، بينما تسعى إيطاليا إلى إحداث حالة من الاستقرار يمكن من خلالها التحكم في ملف الهجرة الذي يؤرقها، وتستطيع من خلالها أيضاً تأمين مصالحها في الغرب الليبي والتوسع شرقاً.
أما واشنطن فإنها ترى في الأزمة الليبية ملف توازنٍ وتسوية لخلافاتها مع حلفائها، وبتعيين ستيفاني ويليامز نائباً للمبعوث الأممي أعلنت تدخلها المباشر في الملف الليبي، وبتوافقها مع الموقف الإيطالي بدأت تمارس الضغط على باريس لتحدث بعض التوازن في ملفات إقليمية أخرى، وعلى رأسها ملف إيران النووي حيث أن باريس أكبر المعارضين أوروبياً للانسحاب الأمريكي منه.
كما أن واشنطن حذرة من التواجد الروسي في البحر الأبيض المتوسط، وسعي موسكو -كما أشارت تقارير صحف أمريكية- إلى إنشاء قاعدة عسكرية في ليبيا، وهو ما لن تسمح به واشنطن.
*****************************
وبإعلان روما عزمها عقد مؤتمر دولي حول ليبيا في أكتوبر القادمودعم واشنطن لها، بدأت كل من روما وباريس سباقاً دبلوماسياً محموماً يبرز في حدة التصريحات بينهما، وتعتبر آخر مؤشراته زيارة وزير الخارجية الإيطالي إلى القاهرة هذا الأسبوع، والذي يبدو أن الهدف منها جعل القاهرة –غير المرحبة بمخرجات باريس- تنخرط ضمن التوجه الإيطالي، والاتفاق معها على صيغة تجعل من رجل مصر في ليبيا (خليفة حفتر) يتجاوب هو أيضاً مع المساعي الإيطالية.
إذا فحتى أكتوبر القادم سيشهد الملف الليبي حضورا مكثفاً على موائد الدبلوماسية الفرنسية والإيطالية، وغير مستبعد أن يتم التوافق بينهما على صيغة مرضية للطرفين، كلّ هذا وسط غياب حقيقي وفاعل لأي طرف ليبي، بل المتوقع الإبقاء على حالة الجمود السياسي إلى حين انعقاد المؤتمر في أكتوبر القادم.
***********************************
وهنا يجب لفت النظر إلى اللغط الحاصل بسبب التصريحات الأخيرة للسفير الإيطالي في طرابلس، والتي استغلتها بعض القوى السياسية والمنابر الإعلامية لادعاء الوطنية الزائفة، والتمثيل السمج لدور الوطني الغيور.
بلا شكّ أن التدخل في الشأن الوطني وما يمس السيادة الوطنية أمر مرفوض من أي طرف خارجي كان، والنزاهة والموضوعية تستلزم رفضه من جميع الأطراف وبمختلف أشكاله، وأنا لست بصدد التبرير لتصريحات السفير الإيطالي، ولكني أوجه الخطاب إلى الأطراف التي تعزف ألحان النشاز على وتر الوطنية لتغطي بها صرخات المعاناة التي يعيشها الوطن والمواطن بسبب عرقلتهم المقصودة للمسار السياسي وإصرارهم على جرّ الوطن إلى الوراء، ومحاولتهم إفشال أي دفع للعملية السياسية إلى الأمام، والتي كان آخرها إفشال إقرار قانون مشروع الاستفتاء على الدستور، مصادرة حق الشعب في قول كلمته بخصوص هذا الاستحقاق.
إن التيار المعرقل لأي تقدم سياسي في مسار حل أزمة الوطن، والمصرّ على نهج المكابرة والعناد العبثي، هو الذي جعل من الوطن ملفاً مفتوحاً ومتداولاً بكل أريحية في الحقائب الدبلوماسية للدول، وأضاع سيادة الوطن وغيّب المؤسسة القادرة على صونها والممثلة لهإقليميا ودولياً، وهذا التيار هو الذي ينبغي للشارع أن يتحرك ضده ويرفضه ويحاسبه.